الاحتجاز على ذمة المحافظ في فلسطين، حجز مشروع أم تعسفي؟
تقع الأراضي الفلسطينية تحت أثر منظومة قانونية قلّ وجودها دولياً، فلخصوصية الوضع السيادي الذي مرت به خلال الفترة الزمنية السابقة من وقوعها تحت سيادة العديد من الدولة بدءا من الدولة العثمانية ومرورا بالاستعمار البريطاني والاحتلال الإسرائيلي لغالبية الأراضي الفلسطينية، والسيادة الأردنية على الضفة الغربية؛ والمصرية على قطاع غزة، وأخيرا السلطة الفلسطينية على جزء محدود من الضفة الغربية.
هذا كله أوجد منظومة قانونية قامت بإقرارها دول متعددة لحاجات وأزمنة مختلفة، ما زالت ذات أثر قانوني واضح في المجتمع الفلسطيني.
فمنذ قدوم السلطة الفلسطينية أوائل العام 1992 لم يتم إقرار الكثير من القوانين المعدلة أو الجديدة لبناء قاعدة قانونية سليمة وناجعة في فلسطين يمكن الارتكاز عليها، فحتى اللحظة يتم الرجوع لقوانين منذ عهد الدولة العثمانية كقانون البندرول والتبغ، وقوانين الطوارئ السارية في عهد الاستعمار البريطاني، والأوامر العسكرية الإسرائيلية التي تم إصدارها تباعا لفرض الوقائع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والقوانين الأردنية التي ما زالت تسير عمل المحاكم في الضفة الغربية وعلى رأسها قانون العقوبات رقم 16 للعام 1960م والقوانين المصرية التي يرتكز عليها القضاء في قطاع غزة، أما القوانين الفلسطينية في عهد السلطة فلم ترقى بعد لبناء قاعدة قانونية حقيقية، لأسباب متعددة منها: الفساد المستشري في مفاصل السلطة الفلسطينية، والتعطيل المتعمد للمجلس التشريعي الفلسطيني منذ سنوات طويلة، واعتراض الاحتلال على مجموعة من القوانين باعتبارها تمس الاتفاقيات بين الطرفين، خاصة وأن الاحتلال يتحدث عن حكم ذاتي محدود وليس دولة حقيقية ذات سيادة كاملة.
هذا الوضع الشاذ أوجد أحكام قضائية غير متجانسة وغير منطقية، فحتى اللحظة يرتكز على قانون العقوبات الأردني لفرض العقوبات، مع أن القانون عفى عليه الزمن وقاصر في كثير من مواده عن تغطية الكثير من القضايا المستحدثة التي تستجد كل يوم، وهذا ينطبق على معظم القضايا والاختصاصات الأخرى، فعلى سبيل المثال، لا زالت المجلة العدلية العثمانية وقانون الأحوال المدنية الأردني، ولم يغير قانون الأحوال المدنية الفلسطيني رقم 2 للعام 1999م وتعديلاته اللاحقة الكثير على ما هو مطلوب تغييره، كذلك ما زالت الأوامر العسكرية الإسرائيلية الصادرة من جيش الاحتلال الإسرائيلي صاحبة اليد الطولى في القضايا الأمنية والمصرفية والاقتصادية.
والسلطة الفلسطينية يبدو أنها ذات مصلحة في إبقاء الحال على ما هو عليه، فكما أسلفنا لم تهتم سوى ببعض القوانين الخاصة بفرض الضرائب وتعزيز سلطة الأجهزة الأمنية خاصة المخابرات العامة والامن الوقائي والاستخبارات العسكرية، وهذه الأجهزة هي الموكل إليها امر الاعتقال السياسي للمعارضين ومن يجرؤ على مقاومة الاحتلال.
ولغياب مواد قانونية تتيح الاعتقال للمقاومين الفلسطينيين والمعارضين والصحفيين تلجأ السلطة الفلسطينية لعملية تكييف لمواد قانونية غير ذات صلة لتوجيه التهم وإصدار الأحكام، مثل المواد الفضفاضة المتعلقة بالصلاحيات الأمنية المخولة للمحافظ للحد من اللصوصية والسرقات، نجد أن المرسوم الرئاسي رقم 22 لسنة 2003 بشأن اختصاصات المحافظين قد نص في المادة الخامسة على الاختصاصات والصلاحيات التي يتولاها المحافظ وهي: الحفاظ على الأمن العام والأخلاق والنظام والآداب العامة والصحة العامة وحماية الحريات العامة وحقوق المواطنين. وحماية الأملاك العامة والخاصة وتحقيق الأمن في المحافظة ويعاونه في ذلك قادة الشرطة والأمن العام في المحافظة، دون ان يكون له صلاحية الاعتقال بدلاً من جهاز الشرطة، لكن الاعتقال على ذمة المحافظ ومنذ قدوم السلطة أصبح آداة الأجهزة الأمنية للاعتقال التعسفي ودون وجود تهم تتيح هذا الاعتقال، والحجز على ذمة المحافظ أشبه ما يكون بالاعتقال الإداري الذي تمارسه إسرائيل بحق المعتقلين الفلسطينيين.
وقد أصدرت أخيرا محكمة العدل العليا الفلسطينية قرار بالقضية رقم 124\2020 حكما فاصلا نهائيا ببطلان حجية الحجز على ذمة المحافظ، ومع ذلك يبدو أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية ما زالت تراوغ في هذا الأمر، فمع أن أعلى هيئة قضائية مختصة قد أصدرت حكما ببطلان هذا الحجز إلا أنها ما زالت تمارس الحجز على ذمة المحافظ دون أي اعتبار لقرار المحكمة، وهذا يتطلب بذل جهود من المجتمع المدني المحلي والأحزاب والفصائل الفلسطينية التصدي لهذا الأمر والعمل على وقف تغول الأجهزة الأمنية وضربها بعرض الحائط لكافة الأحكام الصادرة من المحاكم، وما كان لها أن تفعل ذلك لولا وجود دعم مطلق لها من قبل الرئاسة الفلسطينية. كما نطالب بصفتنا الحقوقية بوضع حد لهذا التغول والعمل على تنفيذ قرارات القضاء المدني الفلسطيني، وإعادة تفعيل المجلس التشريعي الفلسطيني للقيام بواجبه بإقرار وإصدار القوانين التي تساعد وتمهد الطريق أمام مجتمع مدني يستند إلى منظومة قانونية قضائية فاعلة تتصف بالعدل والشفافية وتأخذ مصلحة المواطن الفلسطيني باعتباره محل لتنفيذ هذه القوانين.