التقارير

الإجراءات الإسرائيلية تؤدي إلى الموت البطيء لمواطني قطاع غزة المحاصر.

جهاز الصحّة في قطاع غزّة منهار منذ سنوات جرّاء السّياسة التي تطبّقها إسرائيل، وهو أبعد ما يكون عن تلبية احتياجات السكّان هناك نتيجة لنقص الأدوية والتجهيزات الطبيّة والأطبّاء ودورات الإثراء المهني. كثير من العلاجات وبضمنها تلك اللّازمة لإنقاذ حياة المرضى لا يستطيع جهاز الصحّة توفيرها. جولات القتال التي جرت في القطاع خلال السّنوات الماضية وجُرح فيها آلاف الأشخاص ألقت مزيداً من العبء على جهاز الصحة الُمنهار أصلاً.

إزاء هذا الواقع يضطرّ المرضى من سكّان قطاع غزّة ممّن يحتاجون علاجات لا تتوفّر هناك إلى تقديم طلبات لدى إسرائيل لتأذن لهُم بالوُصول إلى مستشفيات في الضفة الغربيّة (وتشمل شرقيّ القدس) وفي إسرائيل أو دُول أخرى. آلاف المرضى يقدّمون طلبات كهذه كلّ سنة.

من جهتها تتعمد إسرائيل في تأخير الموافقة على الطلبات ولا تقبل إصدار تصاريح سوى لعلاجات تُعتبر “منقذة للحياة” وفقط تلك منها التي لا تتوفّر في القطاع. لذلك فإنّ مرضى كثيرين ممّن لا يُعتبر العلاج اللّازم لهُم “منقذاً للحياة” ولكنه أيضاً لا يتوفّر لهُم في القطاع يفقدون فرصة الحصول على العلاج ويظلّون عُرضة للمعاناة – رغم أنّ العلاج اللّازم لهُم متوفّر على بُعد كيلومترات معدودة. أمّا المرضى الذين يستوفون الشروط المضيّقة جدّاً التي وضعتها إسرائيل فيُضطرّون إلى مواجهة مشقّات مسار بيروقراطيّ يُدار بطريقة تعسّفيّة بحيث لا يعلمون عنه شيئاً ولا يضمن لهُم الحصول على التصريح الذي يتوقون إليه.

أثناء تفشي وباء كورونا شدّدت إسرائيل القيود أكثر من ذي قبل فلم تسمح للمرضى بالخروج من القطاع سوى في حالات طارئة، وفي مُوازاة ذلك توقّف التنسيق بين السّلطة الفلسطينيّة وإسرائيل ممّا صعّب خروج المرضى أكثر فأكثر، وهناك مرضى كثيرون تخلّوا أصلاً عن تقديم طلبات خشية أن تصيبهم عدوى الكورونا. في هذه الأثناء رفعت إسرائيل القيود الإضافيّة وعاد التنسيق بينها وبين السّلطة الفلسطينية. تُفيد معطيات منظّمة الصحّة العالميّة للعام 2021 بأنّ 15466 مريضاً من قطاع غزّة قدّموا طلبات للعلاج خارجه وكانت أكثر من نصف الطلبات (8661 أي 56%) لأجل العلاج في مستشفيات في شرقيّ القدس. 30% من الطلبات (4639طلبًا) كانت لأجل العلاج في مستشفيات مناطق أخرى من الضفة الغربيّة، وفقط 14% منها (2165 طلبًا) كانت لأجل تلقّي العلاج داخل “الخطّ الأخضر”.

الآلية التي تتعامل بها السلطات الإسرائيلية:

في الغالبية العظمى من الحالات يتلقّى مقدّمو الطلبات ردّاً قبل موعد علاجهم بيوم واحد عبر رسالة هاتفّية تُبلغهم ما إذا وافقت السّلطات الإسرائيليّة على طلبهم أو رفضته أو أنه “ما زال قيد الفحص”. خلال العام 2021، 37% من الطلبات التي قُدّمت أبلغت إسرائيل مقدّميها أنّها رُفضت أو أنّها “قيد الفحص” أو لم يتلقّ مقدّموها ردّاً. 38% من طلبات المرضى الأطفال (4145 طلبًا) و24% من طلبات المرضى فوق سنّ الـ 60 (2906) رُفضت أو لم يتلقّ مقدّموها ردّاً. المرضى الذين لا يحصلون على تصريح حتى الموعد المحدد لعلاجهم يُضطرّون إلى خوض المسار البيروقراطيّ كلّه من جديد –تعيين دور جديد في المستشفى ثم الحصول على ورقة التزام ماليّ من السّلطة الفلسطينيّة ثم تقديم طلب تصريح جديد لدى دائرة الشؤون المدنيّة في السّلطة في قطاع غزّة وهذه بدورها تقدّم الطلبات إلى إسرائيل عبر مديريّة التنسيق والارتباط الإسرائيليّة. ثمّ مجدّداً تبدأ فترة انتظار الردّ وسط قلق شديد إزاء احتمال عدم الحصول على مُوافقة في الوقت المناسب. في هذه الحالة بعض المرضى ينتابهم اليأس ويمتنعون عن تقديم طلب جديد، وآخرون يتخلّون عن حقّهم في اصطحاب مُرافق فيقدّمون طلب تصريح لأنفسهم فقط، وإذا تمّت المُوافقة على طلبهم سوف يضطرّون إلى السّفر وتلقّي العلاج وحدهم.

وقد استمعنا لمجموعة من الشهادات لمرضى من قطاع غزة منهم: فاطمة القهوجي (40 عامًا) تعاني التهاب المفاصل الرّثَياني (روماتيزم)، وهي أمّ لستّة وتقيم في خانيونس. في إفادة أدلت بها يوم15-2022: أنا أمّ لستّة أبناء في سنّ 12 – 21 عاماً. أعاني منذ عشر سنوات من مرض الرّوماتيزم وهو يُضعف مناعة جسمي ويسبّب لي تورّمات في المفاصل ونوبات ألم شديد تنتابني مرّة كل أسبوع أو أسبوعين. إنها أوجاع فظيعة لدرجة أنّني أصرخ من شدتها. عندما بدأت هذه المشاكل معي توجّهت إلى أطبّاء كثيرين في القطاع وأجريت فحوصات كثيرة ولكنّ أيّاً منهم لم يشخّص حالتي ويعرف مرضي. كانت تلك الفترة أصعب ما مرّ عليّ في حياتي. كان كلّ موضع في جسمي يؤلمني بشدّة ولم أعرف ما الذي يحدث لي – إلى أن أجرى لي أحد الأطبّاء فحص دم خاصّ وبعد عشرين يوماً أخبرني ما هو مرضي.

ابتدأت العلاج فوراً لأنّ المرض كان قد أصبح في مرحلة متقدّمة. تناولت أدوية عديدة وبضمنها الكورتيزون الذي لا زلت أتناوله. قبل خمس سنوات وفي العام 2016 بدأت أتلقى علاجاً بيولوجيّاً. كان يُفترض أن أتلقّى 48 حقنة ولكنّني تلقّيت فقط 36 وتحسّنت حالتي على أثرها، لكنّهم أوقفوا العلاج لأنّ هذا الدّواء نفد في مخازن وزارة الصحّة في القطاع. لهذا السّبب حوّلوني لاستكمال العلاج في مستشفى النجاح في نابلس. في العام 2017 قدّمت ثلاث طلبات لتصريح دخول وجميعُها رُفضت، وقد تكرّر الأمر في 2018 ثمّ في 2019. في العام 2020 لم أقدّم طلبات بسبب تفشّي وباء كورونا إذ خشيت من العدوى خاصّة وأنّ مناعة جسمي ضعيفة.

في هذه الأثناء تفاقمت مضاعفات المرض وتأثرت قدرتي على الرؤية. الآن أنا خائفة جدّاً من ظهور الآثار الجانبيّة للكورتيزون فهو قد يضّر بالكبد والكلى.

أنا لا أستطيع العناية بأبنائي وبيتي. لقد انتقلت والدتي سميرة أبو طعيمة (60 عاماً) للإقامة عندنا لكي تساعدنا. عندما تنتابني نوبات الألم أظلّ في السّرير لأنّني لا أقوى على الوُقوف. في اللّيالي أبكي وأصرخ من شدّة الألم حتى أنّ أبنائي يُغلقون أبواب غرفهم لكيلا يسمعوا.

في العام 2021 تدهور وضعي بحيث قال الطبيب إنّه من الضروريّ أن أتلقّى العلاج في مستشفى النجاح. بعد أن عيّنوا لي موعداً في 29.10.21 وقدّمت طلبات تصريح لي ولأمّي لترافقني، تلقّيت تبليغاً قبل الموعد ببضعة أيّام يقول إنّ عليّ المجيء إلى حاجز “إيرز” لمقابلة المخابرات الإسرائيليّة. وصلت إلى هُناك في الموعد المحدّد وبعد أن انتظرت من السّاعة 11:00 صباحاً حتى الخامسة عصراً جاءت جنديّة وقالت لي: يمكنك عُبور الحاجز الآن والسّفر مباشرة إلى المستشفى. رفضت ذلك لأنّني كنت وحدي بدون والدتي التي يُفترض أن تُرافقني، وأيضاً لم يكن معي نقود ولا ملابس. في الطريق إلى البيت وصلتني رسالة خطّية تُفيد أنّ طلبي وطلب والدتي قد رُفضا.

إزاء ذلك تمّ تعيين موعد جديد في 22.11.21 ثمّ قدّمت مجدّداً طلب تصريح. في هذه المرّة قرّرت السّفر وحدي إلى المستشفى بدون مرافقة على أمل أن أحصل بهذه الطريقة على تصريح. أتمنّى أن يحصل ذلك لأتمكّن من تلقّي العلاج البيولوجي. إنّه ضروريّ لي لكي أستطيع ممارسة حياة عاديّة وأتخلّص من هذا العذاب الذي لا ينتهي. أنا مُنهكة جسديّاً ونفسيّاً من هذا الوضع المُحبط.

أبنائي يحتاجونني والبيت يحتاج عناية. والدتي امرأة مسنّة ولا تستطيع أن تقوم بكلّ الأعمال بدلاً عنّي. يُحزنني أنّها اضطرّت إلى ترك منزلها والإقامة معنا. منذ أن مرضت لم تتركني للحظة واحدة. إنّها تعتني بي إضافة إلى أعمال المنزل التي تقوم بها، تُتابع وضعي الصحّي وتهتمّ بكلّ المُعاملات اللّازمة.

 نوفل حرارة (64 عامًا) يعاني من مرض السّرطان وهو متزوّج وأب لستّة أبناء. في إفادة أدلى بها يوم 2022-2-15 قال: منذ ستّ سنوات أعاني من أورام سرطانيّة في العظام والأمعاء الغليظة ومن قبل عانيت مشاكل في القلب وورماً الكتف. منذ تشخيص حالتي تلقّيت العلاج في مستشفى الشفاء ومستشفى الرّنتيسي في القطاع، وأيضاً في مستشفيات الضفة الغربيّة بما في ذلك شرقيّ القدس. من العام 2019 وحتى 2021 مكثت في رام الله لتلقّي العلاج.

في 1.8.21 عُدت إلى القطاع. كان يُفترض أن أتلقّى في مستشفى المطّلع (أوجوستا فيكتوريا) في شرقيّ القدس علاجات أشعّة لمعالجة الورم في الأمعاء الغليظة. كنت منهكاً جرّاء العلاجات التي تلقّيتها ولم يكن في استطاعتي خوض هذه العمليّة بدون مُرافق. قدّمت طلب تصريح لي ولزوجتي لكي تُرافقني إلى المستشفى. ذهبت إلى مكتب الشؤون المدنيّة وعيّنت بواسطتهم موعداً لتاريخ 29.8.21، ولكن قبل الموعد بيوم واحد تلقّيت رسالة هاتفيّة يقولون لنا فيها إن الطلب “قيد الفحص”. عُدت إلى مكتب الشؤون المدنيّة وعيّنت موعداً جديداً في 4.1.21، ومرّة أخرى تلقّيت رسالة قبل الموعد بيوم واحد تُفيد بأنّ طلبي وطلب زوجتي قيد الفحص. في هذه المرّة اتّصلوا بي من المستشفى وعيّنوا لي موعداً جديداً في 23.12.21.

أنا متوتّر جدّاً لأنّني لم أحصل على التصريح حتى الآن. لم أتوقّع أن يحدث هذا معي فقد سبق وتلقّيت العلاج في الضفة الغربيّة وعُدت إلى القطاع بدون أيّة مشكلة. هذا الأمر يشكل ضغطًا كبيرًا وأنا رجل مسنّ ومريض ولا يوجد لحالتي علاج في القطاع. السّرطان ينتشر في جسمي وقد وصل إلى المعدة أيضاً ووضعي يتدهور يوماً بعد يوم. هذا ناهيك عن الأوجاع التي أعانيها ليلاً ونهاراً. أدعو الله أن أحصل على المُوافقة وأتمكّن من الوصول إلى المستشفى وتلقّي العلاج.

وأمام هذا الوضع نقف ونؤكد على ضرورة الضغط على السلطات الإسرائيلية السماح للمواطنين الفلسطينيين العزل في قطاع غزة تلقي العلاج في الضفة الغربية أو في أي مكان آخر، وهذه الحقوق نصت عليها كافة القوانين والأعراف الدولية، وما تقوم به إسرائيل يرقى إلى درجة القتل العمد لهؤلاء المواطنين المرضى بمنعهم من تلقي العاج المناسب لهم وتركهم  يموتون بسبب تعمدها منعهم من الوصول إلى مناطق تلقي العلاج، ويقع على المجتمع الدولي مسؤولية جمة وكبيرة في الضغط على السلطات الإسرائيلية للسماح للمواطنين الفلسطينيين بمغادرة قطاع غزة المحاصر من قبلها وفرض العقوبات الملزمة لها.

Related Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى