انهاء الاحتلال الإسرائيلي واجب أخلاقي وقانوني يقع على المجتمع الدولي
في حزيران 2021 بلغ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة الرابعة والخمسين من عمره ودخل في عامه الخامس والخمسين. جيل ثالث بل ورابع من الفلسطينيين وُلد في غمرة هذا الواقع ولم يشهدوا واقعًا آخر سوى: واقع سيطرة إسرائيل على الـ 5 ملايين شخص القاطنين في الأراضي الواقعة بين النهر والبحر؛ ففي حزيران 1967 احتلّت إسرائيل قطاع غزة والضفة الغربية. منذ ذلك الحين تواصل إسرائيل السيطرة بهذا الشكل أو ذاك على هذه المناطق وعلى سكّانها وتفرض عليهم منذ نصف قرن واقعًا قوامه السلب والقمع منتهكة بذلك حقوق الإنسان:
ففي قطاع غزة تطبّق إسرائيل عبْر السيطرة من الخارج سياسة لا تعرف الرّحمة متنصّلة من إسقاطاتها المريعة على حياة السكّان؛ إذ تمنع إسرائيل عن سكّان القطاع أيّة إمكانية لخلق كيان مستقلّ ولكنها في الوقت نفسه مستعدّة لتلبية احتياجاتهم الدنيا – أيضًا في مجالات ضروريّة كالماء والكهرباء. هذه السياسة لا تتيح إعادة إعمار القطاع مادّيًّا بعد أن زرعت فيه الدّمار خلال عدد من جولات القتال ولا تتيح النهوض الاقتصادي للتعافي من سنوات الحصار الطويلة. وترفض إسرائيل تغيير سياستها رغم صعوبة الوضع في القطاع والتكهّنات القائلة بأنّه خلال سنوات عدّة سيصبح غير قابل للعيش فيه. الاجراءات القضائية الملتوية لا يقدر أيّ منها إخفاء ما يحدث: واقع الحياة في قطاع غزة مشابه لما في دولة عالم ثالث آخذة في الانهيار ليس نتيجة كارثة طبيعية، وإنما هو انهيار من صُنع يد الاحتلال الإسرائيلي.
في الضفة الغربية تطبّق إسرائيل – عبْر السيطرة المباشرة وكذا عبْر السلطة الفلسطينية – سياسة غاياتها بعيدة المدى واضحة. وتشهد الممارسات والمواقف الرسمية لعدد متزايد من زعماء إسرائيل على أنّهم لا يرون في الاحتلال واقعًا مؤقتًا؛ عوضًا عن ذلك تتصرّف إسرائيل في الضفة كما يحلو لها وكأنّ هذه المنطقة تقع تحت سيادتها التامّة: إنّها تنهب الأراضي وتستغلّ الموارد الطبيعية في المنطقة لاحتياجاتها وتقيم فيها مستوطنات ثابتة مخصّصة فقط للإسرائيليين. في الوقت نفسه يعيش سكّان الضفة الفلسطينيون تحت وطأة حكم عسكري متصلّب يخدم أوّلاً وقبل كلّ شيء مصالح إسرائيل والمستوطنين.
شرقيّ القدس جزء من مناطق الضفة الغربية وقد ضمّته إسرائيل إلى نفوذها خلافًا للقانون الدولي؛ رغم ذلك تعامل إسرائيل سكّان القدس الفلسطينيين كمهاجرين غير مرغوب فيهم وتطبّق هناك سياسة منهجيّة غايتها سلب بيوتهم وترحيلهم عن مدينتهم، وتتنصّل الجهات الإسرائيلية الرسميّة من مسؤولية إسرائيل عن هذا الواقع وما ينطوي عليه من انتهاك لحقوق الإنسان. بدلاً من ذلك تتذرّع هذه الجهات بحجّة حماية المصالح الأمنيّة لإسرائيل ملقية بذلك على الفلسطينيين جلّ مسؤولية استمرارها في السيطرة عليهم – سواء كانت تلك سيطرة مباشرة في الضفة الغربية أو سيطرة غير مباشرة في قطاع غزة، ولكن الصلة واهية بين الاعتبارات الأمنية والسياسة التي تطبّقها إسرائيل في الأراضي المحتلة التي تسيطر عليها منذ 1967 ورغم “حملات الدّعاية” العنيدة التي تديرها إسرائيل تبقى الوقائع أصلب: إسرائيل هي التي تسيطر على ملايين الفلسطينيين وهي التي تقرر كيف تبدو حياتهم وماذا يكون مصيرهم.
ونرى أن النظام القضائي الإسرائيلي لا أمل يُرتجى منه لإيجاد حلّ؛ فالسيطرة على الفلسطينيين تنخرط في تطبيقها سلطات إسرائيلية كثيرة ولكن ما كان لهذا الأمر أن يحصل لو أنّ الجهاز القضائيّ لم يتجنّد كلّه لإضفاء الشرعية على حرمان الفلسطينيين ا من حقوقهم؛ فهدم المنازل والاعتقالات الإدارية وترحيل التجمّعات السكّانية والتعذيب وإغلاق الطرق والحرمان من حق التعويض عن أضرار تسبّبت فيها قوّات الأمن – هي فقط قائمة جزئية من ممارسات الدولة وكلّها حظيت بمباركة قضائية أضفتها المحكمة العليا وبتمثيل قضائي دائم للدولة بشخص نيابتها العامّة. وجهاز القضاء الإسرائيلي فتح أبوابه أمام سكّان المناطق المحتلة بهدف معلن هو حماية حقوقهم. ولكن الكلام المنمّق شيء والواقع البائس شيء آخر؛ فعليًّا تحوّل جهاز القضاء الإسرائيلي إلى أداة (بالمعنى الحرفيّ لكلمة أداة) مركزيّة للسيطرة على الفلسطينيين.
وفي الساحة الدولية خلافًا لادّعاءات إسرائيل والالتزامات الدوليّة للدول في مجال حقوق الإنسان، يتمّ عمل القليل فقط لأجل إحداث تغيير في ممارسات إسرائيل، وهي تحظى بدعم دولي واسع. ولم تسفر جولات المحادثات المتتالية عن إحقاق حقوق الفلسطينيين – وفي حالة اتفاقية أوسلو وسّعت هذه المحادثات في نهاية الأمر من نطاق سلب حقوق الفلسطينيين، ومنحت لإسرائيل مهلة إضافية لسنوات طويلة تعزّز فيها مصالحها. والوضع الحاليّ صعب ولكن تقييم الوضع في الوقت الحاضر على نحوٍ واقعيّ ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار ما يحمله المستقبل؛ فغايات إسرائيل معلومة وواضحة: تعميق السيطرة وتعزيز مصالح إسرائيل من خلال فرض مزيد من الوقائع على الأرض؛ مواصلة السيطرة على ملايين المواطنين الفلسطينيّين المحرومين من الحقوق؛ وإضعاف الاحتجاج داخل إسرائيل وفي العالم على استمرار الاحتلال. يحدث هذا كلّه في واقع دوليّ يجبي من إسرائيل أدنى الأثمان على سياسة بلغت هذا الحدّ من العنف واللاقانونيّة واللاأخلاقيّة.
في مجابهة هذا المستقبل يكافح الشعب الفلسطيني لأجل مستقبل مختلف – مستقبل ركيزته حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية والمساواة؛ لجميع الأشخاص القاطنين بين النهر والبحر حقوق فرديّة وجماعيّة وبضمنها حقّ تقرير المصير. قد تؤدّي السيناريوهات السياسيّة المختلفة إلى تحقيق مستقبل يرتكز إلى إحقاق هذه الحقوق؛ لكن هناك أمر واحد مؤكّد: استمرار الاحتلال ليس واحدًا من هذه السيناريوهات.
ونرى كحقوقيين ومدافعين عن حق الإنسان أن الاحتلال يجب إنهاؤه؛ وسيطرة إسرائيل المتواصلة على ملايين البشر الذين أصبحت حياتهم رهن إرادتها وقرارها أمرٌ غير مقبول ولا يمكن إيجاد مبرّر له أو عُذر. ما يسمّى خطأ بـ “الوضع القائم” يؤمّن فقط شيئًا واحدًا: استمرار انزلاق جميع القاطنين في الأراضي المحتلة إلى واقع ممتلئ بمزيد من الظلم والعنف وفقدان الأمل؛ ونحذر إذا لم يتمّ إيجاد مخرج غير عُنفيّ من الواقع الحالي فسوف تكون مستويات العنف المنظّم وغير المنظّم التي شهدناها خلال نصف القرن الماضي مجرّد مقدّمة لما سيحصل في المستقبل، وعليه فالسعي وبذل الجهود لأجل مستقبل مغاير ليس فقط مهمّة أخلاقيّة عاجلة وإنّما هو مهمّة إنقاذ حياة من الدرجة الأولى.