سياسة التخطيط المتبعة في الضفة الغربية هدفها ابتلاع الأراضي الفلسطينية واحلال المستوطنين فيها.
تستخدم سلطات الاحتلال الإسرائيلي جهاز التخطيط الإسرائيلي في الضفة الغربية لمنع التطوّر الفلسطيني وسلب أراضي الفلسطينيين. وعندما تتناول هذا الموضوع تستخدم لغة مليئة بالمصطلحات المضللة من قبيل “قوانين التخطيط والبناء” وخطة بناء مدينة” و”إجراءات تخطيط” و”بناء مخالف للقانون”. تستخدم دولة الاحتلال هذه المصطلحات في موضوع البناء في المستوطنات وداخل حدود دولة الاحتلال؛ ولكن على النقيض التامّ ممّا تقوم به الدولة في البلدات اليهودية في أراضي فلسطين 1948 والمستوطنات حيث تستخدم قوانين التخطيط والبناء لتنظيم التطوير وللموازنة بين الاحتياجات المختلفة تجيّر الدولة القوانين نفسها في الضفة الغربية لخدمة أهداف معاكسة تمامًا: منع التطوّر وإيقاف التخطيط المستقبلي وتنفيذ أوامر الهدم؛ وهي تفعل كلّ ذلك كجزء من خطّة سياسية غايتها تمكين دولة الاحتلال من تسخير أقصى مساحة ممكنة من أراضي الضفة الغربية لاحتياجاتها هي وفي المقابل تبذل ما في وسعها لتقليص موارد الأرض المخصّصة لخدمة احتياجات السكّان الفلسطينيين.
في اتفاق أوسلو (ب) الذي جرى توقيعه عام 1995 قُسّمت الضفة الغربية إلى ثلاثة أنماط من المناطق – وكان يُفترض أن يسرى ذلك التقسيم لمدّة خمس سنوات فقط على النحو التالي: المناطق التي كان يشغل معظمها العمران الفلسطيني عند توقيع الاتفاق وفيها سكن وما زال يسكن معظم السكّان الفلسطينيين وقد صُنّفت كمناطق A وB. هذه المناطق التي تفتقر إلى التواصل الجغرافي حيث تتوزّع على 165 “جزيرة” منعزلة تنتشر في أنحاء الضفة نُقلت السيطرة عليها شكليًّا ليد السلطة الفلسطينية. بقيّة أراضي الضفة الغربية أي ما نسبته 61% من مجمل مساحتها جرى تصنيفها كمناطق C وهي منطقة متّصلة جغرافيًّا أبقتها سلطات الاحتلال تحت سيطرتها في مجال الأمن وجميع المجالات المدنية المتعلّقة بالأراضي بما في ذلك التخطيط والبناء ومرافق البنى التحتيّة والتطوير. تقسيم الضفة الغربية على هذا النحو هو تقسيم مصطنع لا يعكس الواقع الجغرافي ولا المجال الفلسطيني.
مناطق C هي المناطق التي تحوي متّسعًا لإمكانيّات التطوير الحضري والزراعي والاقتصادي للضفة الغربية. تستغلّ سلطات الاحتلال سيطرتها التامّة هناك في مجال التخطيط والبناء لتمنع الفلسطينيين منعًا شبه تامّ من البناء في مناطقC . في ما يقارب 60% من هذه المنطقة – أي نحو 36% من مجمل مساحة الضفة الغربية – تفرض هذا المنع بواسطة تعريف مساحات شاسعة كـ”أراضي دولة” و”أراضي مسح” و”مناطق إطلاق نار” ومحميات طبيعية” و”حدائق وطنية” وذلك عبر ضمّها إلى مسطّحات نفوذ المستوطنات والمجالس الإقليمية أو عبر القيود والتضييقات السارية على الأراضي التي احتجزتها سلطات الاحتلال بين جدار الفصل العنصري والخط الأخضر.
لكن حتّى في الـ40% المتبقّية من مناطق C تطبّق سلطات الاحتلال سياسة تمنع البناء الفلسطيني منعًا شبه تامّ إمّا عن طريق الرفض الكلّي تقريبًا لجميع طلبات استصدار رخص البناء من أيّ نوعٍ كان – سواء بناء المنازل أو المباني الزراعية أو المباني العامّة أو مرافق البنية التحتيّة. ترفض الإدارة المدنية إعداد أو المصادقة على خرائط هيكلية لمعظم البلدات الفلسطينية في مناطقC. حتى تشرين الثاني من عام 2017 ومن ضمن 180 بلدة فلسطينية تقع مساحتها كاملة في مناطق C صادقت الإدارة المدنية وهيأت خرائط هيكلية لـ 16 بلدة فقط. بلغت مساحة المناطق الواقعة تحت هذه المخططات 17,673 دونم أي أقل من 1% من مناطق C كافة وهي في معظمها مناطق عمرانية أصلًا. هذه الخرائط أعدّت دون مشاركة السكّان ودون اعتبار لأيّ من معايير التخطيط المتوافق عليها في العالم: حدودها ملاصقة لحدود العمران الحالية في القرى بحيث لا متّسع فيها لمساحة زراعيّة ولا مرعىً ولا احتياطيّ أرض لتطوير مستقبليّ.
منذ العام 2011 أعدّت عشرات التجمعات السكانية الفلسطينية مخططات هيكلية لمناطق سكناها – بالتعاون مع مؤسسات فلسطينية ودولية وكذلك السلطة الفلسطينية – بعدما امتنعت سلطات الاحتلال عن إعداد مخططات هيكلية عقب أن طُلب منها ذلك. تطرق جزء من المخططات إلى تجمعات وقرى تقع كافة مساحتها ضمن مناطق C وأخرى يقع جزء من مساحتها فيها. حتى شهر أيلول من العام 2018 قُدم 102 مخططًا هيكليًا لأجل المصادقة عليها من قبل الجهات المختصة بالتخطيط في سلطات الاحتلال إلا أنه وحتى نهاية العام نفسه صودق على خمسة منها فقط والتي تسري على مساحة قدرها نحو ألف دونم وتشكل 0.03 % من مناطق C
احتمال حصول الفلسطيني على رخصة بناء – حتّى على أرضه الخاصّة – هو صفر. تُظهر معطيات الإدارة المدنيّة التابعة للاحتلال أنّه بين بداية العام 2000 حتى منتصف العام 2016 قدّم الفلسطينيون لمكاتب التخطيط 5475 طلبًا لاستصدار رخص بناء. فقط 226 طلبًا أي نحو 4% فقط تمّت المصادقة عليها. كثيرون يمتنعون منذ البداية عن تقديم طلبات كهذه لعلمهم أنّه لا أمل في المصادقة عليها. وإذ يبقى السكان الفلسطينيون دون أيّة إمكانية للحصول على رخصة بناء ونظرًا إلى احتياجاتهم المختلفة يضطرّون إلى تطوير بلداتهم وبناء منازلهم دون ترخيص. بذلك يُفرض عليهم العيش مهدّدين دائمًا بهدم منازلهم ومصالحهم.
إنّ هذه السياسة التي تتّبعها سلطات الاحتلال تمسّ ليس فقط بالسكّان الفلسطينيين القاطنين في مناطق C وإنّما أيضًا بسكّان مئات البلدات الفلسطينية الواقعة جميعها أو جزء منها في المناطق لمصنّفة A وB. ذلك أنّ معظم احتياطي الأرض لكثير من هذه البلدات يقع ضمن حدود مناطق C وتسري عليه القيود والتضييقات التي تفرضها دولة الاحتلال في تلك المنطقة.
بمرور السنين تزايدت الحاجة إلى أراضٍ للبناء: التقسيم إلى مناطق جرى في منتصف التسعينيات ومنذ ذلك الحين بلغ عدد السكّان الفلسطينيين في الضفة الغربية تقريبًا ضعف ما كان عليه حينئذٍ. يكاد ينفد احتياطي الأرض في المناطق A وB إذ استُخدمت كلّها تقريبًا. وبسبب أزمة الإسكان المتفاقمة يتمّ بناء المنازل هناك فوق ما تبقّى من الأرض رغم أنّه قد يكون أكثر ملاءمة لأغراض أخرى – كالمباني الزراعيّة مثلاً.
النقص في مساحات الأرض المخصّصة للبناء يصعّب على السلطات الفلسطينية توفير الخدمات العامّة إذ يرتبط الأمر ببناء مرافق عامّة كالعيادات الصحيّة والمدارس والمبادرة إلى وضع مخططات تشمل مساحات مفتوحة داخل البلدات لرفاهية السكّان. استغلال الإمكانيات الاقتصادية المتوفرة في مناطقC في مجالات الزراعة واستخراج المعادن وحجارة البناء والصناعة والسياحة وتطوير البلدات هو أمر حيويّ وضروريّ لتطوير الضفة الغربية كلّها لأجل إيجاد أماكن عمل والحدّ من انتشار الفقر. إنّ استغلال مناطق C حيويّ أيضًا لأغراض التخطيط الإقليمي اللّائق والمستحَقّ لجميع بلدات الضفة بما في ذلك وضع البنى التحتية والتواصل الأنسب بين البلدات.
على نقيض سياسة التخطيط والبناء في البلدات الفلسطينية تحظى المستوطنات الإحلالية – المقامة كلّها في مناطق C – بتخصيص أراضٍ واسعة وبتخطيط مفصّل وربط بمرافق متطورة وفوق ذلك تحظى بغضّ الطرْف عن البناء دون ترخيص. أعدّت للمستوطنات خرائط هيكلية حديثة وتفصيلية تشمل مساحات لبناء مبانٍ عامّة ومساحات خضراء وفي حالات كثيرة نجد كثافة البناء في المستوطنات منخفضة. إنّها تتمتّع بمساحات شاسعة جدًّا – بما في ذلك المساحات الزراعية التي يمكن تطوير المستوطنة عليها مستقبلاً.
ونؤكد على أن هذه لسياسة التي تتّبعها سلطات الاحتلال في مناطق C يقف من ورائها تصوّر يرى أنّ هذه المنطقة وُجدت أوّلاً وقبل كلّ شيء لخدمة احتياجات المستوطنين. تصوّر ينظر إلى المنطقة بمنظار الطموح إلى ضمّ أجزاء كبيرة منها إلى دولة الاحتلال. لذلك تعمل سلطات الاحتلال مثابِرة على تعميق سيطرتها هناك وعلى استغلال موارد المنطقة لمصلحة سكّانها وعلى خلق واقع دائم قوامه الاستيطان المزدهر – يقابله حضور فلسطينيّ ضئيل إلى الحدّ الأقصى الممكن. هكذا تضمّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي هذه المنطقة ضمًّا فعليًّا (دي فاكتو) إلى أراضيها وتُنشئ ظروفًا تسهّل عليها أن تحدّد مستقبلاً المكانة القانونيّة الدائمة لهذه المنطقة.