قيس سعيد يعود بتونس لحقبة زين العابدين بن علي
شكّلت تونس حالة مميزة بعد الربيع العربي، إذ انبثق منها الأمل بعودة أجواء الحكم الديمقراطي وتداول السلطات بين أطياف المجتمع التونسي، وشق الشعب التونسي الطريق لغيره من الشعوب العربية بالتطلع لحكم ينال من خلاله المواطن العربي حقوقه وينعم بحريته.
لكن بعد كل تلك الخطوات والعمل الدؤوب لتثبيت الديمقراطية الناشئة، استيقظ الشعب التونسي والعالم بأجمعه على قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد تجميد اختصاصات البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، كما قرر تولي السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة يعيّنه بنفسه، وتولي رئاسة النيابة العامة، وهذا يعني نشوء حكم استبدادي بكل معنى الكلمة، فقد جمع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والأمنية بيد وحده، وهذا لم يسبقه إليه حتى زين العابدين بن علي.
وأدت هذه الخطوات إلى ردود فعل محلية ودولية وأممية، فقد أعلن مجلس نواب الشعب التونسي في بيان رفضه قرارات الرئيس قيس سعيد الأخيرة بحلّ البرلمان وتجميد عمل الحكومة والسيطرة على مفاصل السلطة التنفيذية والقضائية في البلاد. وأكد المجلس أنه في حالة انعقاد دائم ودعا النواب إلى الدفاع عن المؤسسة التشريعية. ووصف رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، نبيل بفون، قرارات الرئيس قيس سعيد بأنها غير متطابقة مع أحكام الدستور. وأضاف في تصريحات إذاعية، أن الفصل 80 الذي استند إليه سعيد يفرض حالة الانعقاد الدائم للبرلمان حتى في الحالات الاستثنائية. وأوضح أنه لا يمكن الذهاب إلى انتخابات مبكرة في ظل فراغ على مستوى السلطة لأن الدستور حدد ذلك فقط في حال حل البرلمان، وهذا غير متوفر. وأشار إلى أن هيئة الانتخابات ليست هيئة تقنية فقط، بل دستورية، والمرجع الوحيد لإجراء انتخابات مبكرة هو الدستور لا غير. فيما التزم الاتحاد العام للشغل (الهيئة النقابية في البلاد) الصمت، مما يبدو بأنه تأييد خفي لخطوات قيس سعيد أو تريث انتظارًا لما قد يحدث، فيما أعلن الجيش تأييد لخطوات سعيد وقام بنشر قواته أمام المؤسسات الحيوية في البلاد، فيما اعتصم الغنوشي رئيس حزب النهضة ورئيس مجلس النواب التونسي أمام مجلس النواب وصرح بالقول: “نطمئن الشعب التونسي وأصدقاء تونس في العالم أن صوتها الحر لن يخبو أبدا، بإذن الله تعالى”. وأصدرت حركة النهضة قرارات الرئيس التونسي “انقلابا على الثورة” وعلى الديمقراطية في البلاد، ودعت إلى التصدي لهذه القرارات.
ونشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريرًا عن القرارات التي أصدرها الرئيس التونسي قيس بن سعّيد، ووصفت ما يجري بأنه أخطر أزمة تمر على تونس منذ 2013م، ونقلت تصريحات راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة ورئيس مجلس النواب التي وصف فيها القرارات بأنها محاولة انقلابية. وأضافت الصحيفة إن قرارات الرئيس التونسي جاءت في يوم الجمهورية التونسية، وهو يوم تقليدي للاحتفال والاحتجاج في جميع أنحاء الدولة، كما تأتي وسط اقتصاد متعثر، وطفرة مدمرة لفيروس كورونا، وغضب واسع النطاق من الحكومة.
وعلى المستوى الدولي، دعت الأمم المتحدة إلى حل جميع النزاعات والخلافات في تونس عبر الحوار، وحثت جميع الأطراف في البلاد على ضبط النفس والامتناع عن العنف. كما حث الاتحاد الأوروبي اليوم الاثنين الأطراف السياسية الفاعلة في تونس على احترام الدستور وتجنب الانزلاق إلى العنف. وقالت المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية: “نتابع عن كثب أحدث التطورات في تونس”. وأضافت: “ندعو كافة الأطراف إلى احترام الدستور ومؤسساته وسيادة القانون، كما ندعوهم إلى التزام الهدوء وتجنب اللجوء إلى العنف حفاظا على استقرار البلاد”. وأبدت الولايات المتحدة الإثنين قلقها إزاء إقالة الرئيس التونسي قيس سعيّد لرئيس الحكومة ودعت إلى احترام “المبادئ الديموقراطية” في البلاد التي تعد مهد “الربيع العربي”. وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي: “نحن قلقون إزاء التطورات في تونس”، وأعلنت أن “التواصل قائم على أعلى مستوى” وان واشنطن “تدعو إلى الهدوء وتدعم الجهود التونسية للمضي قدما بما يتوافق مع المبادئ الديموقراطية، وقالت إن الولايات المتحدة لم تحدد بعد ما إذا كان الوضع في تونس يعد انقلابا”، وإن الخارجية تنظر في المسألة من جوانبها القانونية. وأعلنت الدبلوماسية الفرنسية أن باريس تأمل بعودة المؤسسات إلى عملها الطبيعي في تونس في أقرب وقت. وقالت المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية إن فرنسا تدعو أيضا جميع القوى السياسية في البلاد إلى تجنب أي من أشكال العنف والحفاظ على المكتسبات الديموقراطية للبلاد. وفي ألمانيا، قالت المتحدثة باسم الخارجية ماريا أديبهر إن بلادها تأمل عودة تونس “في أقرب وقت ممكن إلى النظام الدستوري”. وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف -في تصريح مقتضب- إن بلاده تراقب التطورات في تونس. وأضاف: “نأمل ألا يهدد شيء استقرار وأمن شعب ذلك البلد”. وبدوره أكد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين اليوم الاثنين أن الانقلاب على إرادة التونسيين والمؤسسات المنتخبة واتخاذ إجراءات أحادية “أمر خطير ولا يجوز شرعا”. وقال الاتحاد في بيان “نؤكد حرمة الاعتداء على العقد الاجتماعي الذي تم بإرادة الشعب التونسي، وينظم العلاقة بين الرئاسة ومجلس النواب ورئاسة الوزراء ويحافظ على مكتسبات الشعب في الحرية وسيادة القانون ورفض الاستبداد والدكتاتورية والتضحية بدماء البررة من الشعب التونسي.
وأعلن رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي خالد المشري رفضه ما اعتبره “انقلابا” على الأجسام المنتخبة. مشبهًا انقلاب قيس سعيد بانقلاب حفتر في ليبيا. ودعت قطر أطراف الأزمة في تونس إلى إعلاء مصلحة الشعب التونسي الشقيق، وتغليب صوت الحكمة، وتجنب التصعيد وتداعياته على مسيرة تونس وتجربتها التي نالت الاحترام في المحيطين الإقليمي والدولي. وقالت وكالة الأنباء السعودية إن وزيري الخارجية السعودي والتونسي تحدثا عبر الهاتف اليوم الاثنين وبحثا الوضع الراهن في تونس. وأجرى وزير خارجية تونس اتصالات هاتفية مع العديد من وزراء الخارجية الغربيين والعرب مؤكدا على استقرار الوضع في تونس. فيما نددت أوساط سياسية تركية رسمية بقرارات الرئيس التونسي، واصفة إياها بالانقلاب غير الشرعي الذي تجب مواجهته. وعلق المتحدث باسم الرئاسة إبراهيم قالن قائلا: “نرفض تعليق العملية الديمقراطية وتجاهل الإرادة الديمقراطية للشعب التونسي الصديق والشقيق، وندين المبادرات التي تفتقر للشرعية الدستورية والدعم الشعبي، ونعتقد أن الديمقراطية التونسية ستخرج أقوى من هذه العملية”.
وبدورنا كمنظمة حقوقية ندعو الرئيس التونسي إلى العودة عن قراراته والاحتكام إلى خيار الشعب التونسي، وضرورة معالجة المشاكل التي أشار إليها في بيانه وفق اجماع شعبي وليس بحكم فردي قد يطيح باستقرار تونس وأمنه، كما ندعو المؤسسات المدنية والشعب التونسي إلى الاحتكام إلى القانون ورفض الانجرار إلى العنف وردود الفعل الدموية.